الاثنين، 18 يناير 2010

أمام "قبريكما" أنفضُ غُبارَ "اشتياقي"


ترويه/هدى بارود:
مرَ العمر سريعا بعد رحيلُكما، واختلفت تفاصيل الحياة عن طبيعتها، وشتاءُ عمري قبل الناس أعلن حُضورَه، فلا حفيف الشجرِ نفسه ولا خريرُ الماءِ ذاته، حتى صوتُ الهواءِ الذي كنتما تخشيان عليّ منه لم يعد ذات الصوت، وتلبدت عيناي بالدموع..
لا أعرف إن كان شاهدا قبريكُما اليوم في زيارتي الأولى، يتحملان ثَقلَ الشوق الذي أضعه بين حروف اسميكما المحفورين عليه، أو يستطيعا نقل رسائلي التي كَثُرت، وزادت طوابع الحنين فيها..
عشرُ سنواتٍ مضت وأنا انتظر اللحظة التي تجمعني بكم، راسما لها كل " السيناريوهات" التي يمكن أن تُرسم لمشهدِ عودةِ مُغتربٍ لحضن والديه بعد عشرةِ أعوام، ما استطاعت فيها "كوبا" بكامل "أناقتها" الاستحواذ على محبته ولهفة قلبه.
عشرُ أعوام يا والديَّ وأنا أصارع "غول" الغربة والوحدة والشوق، وكل ما يشغلني في حلبةَ الصراع المحفوفة بسنينٍ من حياتي قضيتُها بعيدا، دعاءُ ووصية كنتما قد حملتُماني بِهما وأنا أعدُ حقائبي لرحلة "عِلمٍ" فضلتُ أن تكون خارجا لتفخرا بي أكثر..
رحلتُ آملا الرجوع بشهادتيّ بكالوريوس وماجستير في الصيدلة، وكلما راكمَ البعدُ والذكرى و"نشرات الأخبار" عن غزة الشوقَ في قلبي، أقررُ العودةَ ويُثنيني عنها دُعائكما ووصيتكما، "ارفع رؤوسنا عاليا يا أنس، واحذر بُني الغربة وأحوالها، واتبع خطا شقيقك الوحيد لتظفرَ بحب الله ورضاه، وتهدينا ثمرة تعبنا وجهدنا"..
سافرتُ تاركا "روحي" معكما، وكلما رغبتُ يا " روضة ورزق أبو الكاس" بدَفعةِ أمل للأمام، أمسكُ هاتفي وأتصل بكما، يحدثكما لساني وقلبي معا..." أخباري جيدة، ولكن أحترقٌ بُعداً عنكما، وشهاداتي باتت قريبة، وعودتي بإذن الله لحضنكما وشيكة"..، وحالَ أقفلُ سماعة الهاتف وتَسكنُ أصواتكما التي أطربت أذني لدقائق، تُخطفُ روحي مجددا وأود معاودةَ الاتصال، لتمنعني بطاقة الهاتف "منتهية الرصيد".
اسمحا لي الآن بالجلوس خافضا رأسي أمام قبريكما الذي منعني سواد الليل متعاونا مع إصرار شقيقي، من زيارته لحظة رجوعي البارحة إلى غزة، وتقبلا مني هذه الدموع مرفقةً بشهادة "بكالوريوس" وجهدِ عشرٍ متواصلات، ما فارقتني فيها صورتكما المُتربعة "مَلكاً" على عرش قلبي.
واعذراني لسؤالي... لماذا قررتما الموتَ وتركتماني "معا"، وحيدا، في غربة "روحٍ" هي أشدُ قسوةَ من "كوبا"، ولماذا لم تفرحا كما وعدتماني بشهادتيَّ وفضلتما الحصول على شَهادةٍ مختلفة ؟..
"اعتذرُ" والديّ عن أسئلتي، ولكن هي بعض آثار من قلقٍ وخوفٍ ترَكهُما في ذاكرتي مساءَ الخامس عشر من يناير العام الماضي، لما ارتفع صوت دقات قلبي واختنقت أنفاسي، ولم أكن أدرِ ما يحدث، فاتصلت بكما كالعادة أستمد الأمل والراحة، رغم إحاطتكما بخطر الاجتياح البري الإسرائيلي.
رنَ الهاتف أكثر من عشرين مرة، زادت فيها نبضات قلبي، وما كَفِفتُ عن إغراق المناديل "الورقية" بدموعي وعرقي، غير مدرك ما السبب، حتى أسعفتني "فكرةُ" ..الاتصال بشقيقي.. علّكما رحلتما لبيته..
اتصلت كلي أملٌ بالتحدث إليكما، وطلبت منه مُسرعاً بلهجةٍ ملؤها التوتر والقلق " أعطني والدي أو والدتي، أهما عندك؟، لماذا لا يردان على اتصالاتي؟".. لم أسمع رده، أو ربما سمعتُ وأضاعت الصدمة الكلام مُخلفةً إجابةَ واحدة..." يقول الجيران أن قصفا أصاب منزلهم هذا الصباح، وهُدمَ الدرج الواصل لشقتهم".
لم أصدق ما سمعت، ولمدة أسبوع أحاول الاتصال ولا إجابة، فأعاود مُكالمةَ أخي ليُهدأَ روعي واعدا بالذهاب إليكما بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جبل الريس، وهكذا مضى أسبوع، قلبي يرتجف وعيناي تذرفان الدموع ، وأنتما لا تجيبان..
بعد أسبوع، انتظرت أمام الهاتف مترقبا اتصال "غسان" الذي طال، ليخربني أنكما استشهدتما إثر قذيفة إسرائيلية دمرت "الدرجَ" واخترقت جسديكما، وكانت الفاجعة أن دَمكُما الطاهر ملأ البيت، وأجسادكما لا تزاد " لينة".
ألقيت سماعة الهاتف من يدي غير مصدقٍ ما يقول "غسان"، حتى فهمَ أصدقائي العرب مُصابي، وأقاموا بيت عزاء حَضرتهُ الجالية العربية وأصدقائي وجيراني "الكوبيين"، ووقفت أستقبلهم كالجماد، أكلت الصدمة عقله وأضاعت بصره، فلا أتذكر وجه مُعزٍ ولا كلمة رثاء.. فمنذ سمعت خبر وفاتكما لم أعد " أنس " الذي تذكران، فعلقي كثير الشرود، وقلبي دائم التوقف، وعيناي أرهقهما السهر ولعبت في مسرح "بياضهما" "الأحمر" الدموع.
تابعت دراستي كما ترغبان، كشخص غيري لا "أنا"، قابلت الناس وتحدثت معهم، أكلت وشربت ونمت واستيقظت وأنا "غيري"، لا يسجل عقلي غير أحداث الأسبوع الأول بعد الخامس عشر من يناير، حتى مضت ثلاثين يوما أجبرتني بعدها "الذكرى" على الاستيقاظ فجرا لأمسح بعض الدموع المتجمعة على "باب" عيني، وأَرجعُ "بعمري" ليومٍ أغلقتُ حقيبةَ سفري باكياً فاحتضنتني "أمي"، ومسحت "والدي" الدموع عن عيني ضاحكا..
انتحبت كالأطفال منتظرا أن تمسحا دموعي وتحضنا جسدي شديد الحاجة لكما، أو حتى تضحكا لبكائي، ولما طلع النهار عليّ "وحيدا" وانتصفت الظهيرة، قررت حزم حقائبي مرة أخرى "عائدا"، لا "راحلا"..
لم أحمل الكثير، فكل الهدايا التي جمعتها لكما، وشهادتي التي انتظرتموها.. هناك، وها أنا عدتُ حاملا جسدي المُثقل بشوقٍ كَسرَ أضلعي وأحرقَ قلبي، ألقي "عمري" قربانا أما قبريكما، عسى أن تحضنَ روحيكما روحي، ويزهرُ أملي "الضائع" بسماعكما لخطابي...

ليست هناك تعليقات: