الاثنين، 18 يناير 2010

أشهدُ "بحزني" أمام عدالتكم ... "فاسمعون"!!!


ترويه/هدى بارود:
"أشهد بالله العظيم أن ما أقولهُ صدقا" فاستمع إليّ سيدي القاضي واحكم بما تراه حقا أستحقُه...
أنا عمر سعد أبو حليمة ابن التسعة عشر ربيعا..، نعم .. ذات الشخص الذي زارته لجنة تقصي الحقائق لتُسجل أقواله، بعد أن شَهدَ يوما "استثنائيا" في حياته، قَطعت عليهِ فيه الطائرات المعادية الإسرائيلية هدوءَ "عصرَه" و"أسكتت" صوت إخوته الأربعة ووالده، وأحرقت بقذائفها ذات الرائحة "العَفنة" جسد والدته.
تفاصيل المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق عائلتي سيدي القاضي تُشابهُ أحداثَ "فيلم" "رعبٍ" أبطاله من عائلة "السموني"، مَنعنا والدي من متابعة تفاصيل أحداثه حتى "النهاية" على شاشة التلفزيون، ببث مباشر، قبل يوم من تاريخ رحيله عن الدنيا..
لا تومئ برأسك سيدي، أعلمُ أن الإطالة والتفصيل في الجريمة تتعبُ "مطرقتك" الصدئة، وتسقط كل ثوانٍ الشعر الأبيض الطويل عن رأسك، وتجبر حاضري الجلسة ومُسجليها على توزيع مهام أيديهم بين "العينين" و"الأذنين"، ولكن الحٌكم يا "عادلُ" يقتضي مني التفصيل والتصوير..
رافقني "حضرةَ" القاضي لعربةِ "زمن"ٍ أوقفتُ عدادها بتاريخ "عصرِ"يوم الرابع عشر من يناير العام الماضي، واجلس "هاهنا" على بقايا "الذكرى" بهدوء وراقب...
في غرفة نوم والديّ ..اجتمعنا.. ستة عشر شخصا، نحتمي من "قذائفَ" أغرقت حي "العطاطرة" في بيت لاهيا، وأجبرت سكانه على الاختباء "كالعصافير" الفارةِ من "غرابٍ" ملأ سواد ريشه سمائهم "الحالمة"..
ضَمنا والدي سعد بين ذراعيه "بقوة"، وعيناه الحائرتين تراقبان النوافذ "خوفا" من "أذى" يُصيبنا، وجعلَ يصنع بمساعدة والدتي "حاجزين" بجسديهما، فيغطي "ظهرُ" كل منهما نافذة، وتراقب عينيه النافذة بالاتجاه المعاكس، وأنا برفقة إخوتي "عبد الرحيم وزيد وحمزة وشهد" بينهما، نأكل جوعا وخوفا، ما أحضرته والدتي من طعام، إلى أن سمعنا صوت انفجار "أخافنا" فرجعنا للالتصاق بوالدينا من جديد...
دَفَعنّا والدي خارج الغرفة بقوة، ونظمت والدتي "ملجأنا" في ممر البيت بعيدا عن النوافذ، وكأنهما سيدي القاضي "خافا" من أن يَكشفَ زجاج النوافذ "الشفاف" مكان اختبائنا، فَتُلقي الِغربان الإسرائيلية لعنتها تجاهنا..
تصاعدت الضربات بعد "الأولى"، واشتدت الأصوات، وما كان بيدي إلا أن أقف مُنتظرا دوري "بضمة" إلى صدر والدي، بعد أن تشبث به زيد وحمزة وعبد الرحيم، بينما استحوذت شهد ذات السنة والأربعة أشهر على حضن والدتي.
اقتربت الأصوات وابتعدتُ خوفا إلى أن وصلت آخر "الممر".. بالتحديد قريبا من باب المنزل، كأن "الخوفَ" يعرف أن حياتي مُقدر لها الاستمرار، وأنَّ الله كتبَ ليّ "عمرا" جديدا، فابتعادي "أنقذني" من قذيفتي "فسفور" اخترقتا المنزل، وملأتا فضاءه بالدخان الأبيض "الكثيف" قَذرُ الرائحة..
امتلأت رئتاي بالدخان، وأصابني "سعال" أغمضَ عينيَّ وألقاني إلى الأرض، ولما استعدتُ قواي وكشفتُ عن "عينيَّ"، تكشفت الصورة ورأيت المجزرة بكل تفاصيلها، فَتَحملْ الآن كلامي "الممل" "والممتلئ" ذعرا "سيدي" وشاهد هذه الصورة ...
والدي "سعد" مُلقى على الأرض تخرجُ من جسده النار، وبجواره عبد الرحيم يحاول بيديه "المحترقتين" بطيئتي الحركة "إخماد" اللهب المشتعل بكل جسده، وزيد بعد أن سمعت صوته ينادي " نار يما، نار يما" لم أره، بينما "شهد" وحمزة سكنت حركتهما و"تفحمَ" كامل جسديهما..
لا تذرفَ الدمع سيدي "الآن" فالصورة لم تنتهِ بعد، والقصةُ لم تُختم فصولها، هول الصدمة الذي أصابني لا بدَّ أن يصيبك بعد أن تعلم أني رأيت المشهد كاملا "بدمويته" واحتراق أجساد أبطاله..
ورغم ما حدث، نظرتُ باتجاه الباب لأفاجأ بوالدتي تزحفُ "متشقلبة" على الأرض تحاول بيأس إخماد نارٍ تأكل وجهها وأجزاء من جسدها، فهربتُ زاحفا ألحق بها، إلى أن وصلنا خارجا..
أوقفني أخي محمود على قدميّ وعدت للبيت متابعا خطاه، ليخرُجَ منادي"لا أرى غير الأبواب تحترق"، وأنا أنظر بحسرة للنار تشتعل بإخوتي ووالدي، وأشتم رائحة أجسادهم، عاجزا عن تصحيح معلومة محمود بأن من يحترق هم أهلنا يا أخي لا الأبواب..
لا أعرف كيف استطعتُ تناول "بطانية" من الأرض سيدي القاضي، وكيف أوصلتني قدمايّ لجثة والدي المشتعلة، وكيف استطاعت يديّ أن تحاول لفّ جسده "بالبطانية" أو حتى كيف احترقت هي على جسده، وابتعد رأسه منفصلا "كالكرة" شديدة السواد...
مرَّ الوقت وأنا جالس أراقب أجساد أهلي المحترقة في منزلي، وأرى النار تَخمد وشظايا الصواريخ تذيبُ الجلد وتصل للعظام "تتركُ" فيها آثارها، والدخان المنتشر يخنق من يقف في جو الغرفة لأكثر من عشر دقائق..
هنا توقفت حياتنا يا "عادلُ" وقررنا الرحيل "حاملي" بقايا أخوتي الأربعة ووالدي، في شاحنه صغيرة، تاركين خلفنا ذكرى "ماضٍ" جمعني بهم لثمانية عشرة سنة، استعدتهُ ثانية بثانية في طريق الهرب إلى أن وصلنا "دوار العطاطرة"..
لا أخفيك سرا سيدي القاضي أن فكرة الموتِ راودتني أكثر من مرة، وكم تمنيت أن ألقي بجسدي في حضن والدي علّ الحرارة في جثته تحرقني وأرافقه، أو حتى ألقي بنفسي خارج الشاحنة فتصطدم رأسي بالطريق وأفارق الحياة، ولكن للأسف، حتى الرصاصة التي أصابني بها الجندي الإسرائيلي متعمدا عند "دوار العطاطرة"، وأنا أحاول منعهم من إلقاء والدي وإخوتي في حفرة خصصوها للتستر على جرائمهم، أصابت "كتفي" ولم تقتلني..
وها أنا الآن بعد عام، ما فارقتني ذكرى ذلك اليوم، ولا مُسحت من ذاكرتي أحداثها "المختومة" بصورٍ وكلمات بذيئة رسمها الجنود الإسرائيليون ووجدناها بعد انتهاء الحرب على جدران منزلنا السوداء، وفي المكان "المُحتفظ" بحرارة احتراق إخوتي...
"انتهت" شَهادتي سيدي القاضي، وما "انتهى" عقلي من استعادة الإحداث ومحاولة استيعابها، اسمح لي بالمغادرة تاركا المجال لك بالتداول في القضية مع العدالة "معصوبةُ" العينين و"مختلةُ" الميزان .....

ليست هناك تعليقات: